الجزر- نعمة، خداع، وبصيرة مشرقة في زمن الحرب.
المؤلف: طارق فدعق08.11.2025

عنوان المقال يلامس الجمال الكامن في الجزرة، تلك الهبة الرائعة التي تُمتعنا بمذاقها. إنها تحفة فنية بكل المقاييس، بدءًا من لونها البرتقالي الزاهي الذي يشع بالنضارة، مرورًا بتاجها الأخضر الذي يزينها بأناقة، وصولًا إلى ملمسها الصلب الذي يذكرنا بمنحوتة فنية متقنة الصنع. حتى الصوت الذي نسمعه عند قضمها، ذلك "الفرقعة" المميزة، يجسد نضارتها وانتعاشها، فهو نتاج فقاعات الهواء المكبوسة داخل تركيبتها الهندسية المعقدة، والتي تعجز أفضل التصميمات البشرية عن محاكاتها. وقبل أن نتطرق إلى نكهتها الفريدة، يجدر بنا أن نتأمل حلاوتها الطبيعية المتوازنة، فكم من الأطعمة اليوم تعتمد على كميات هائلة من السكر لإخفاء عيوبها!
وبالحديث عن الخداع والتمويه، لا يسعنا إلا أن نذكر الدور الذي لعبته الجزرة في إحدى الحيل الاستراتيجية خلال الحرب العالمية الثانية. ففي مطلع الأربعينيات، وتحديدًا عام 1940، اشتدت وتيرة الغارات الجوية النازية على بريطانيا، التي كانت تعاني نقصًا حادًا في عدد الطائرات المقاتلة القادرة على التصدي للقاذفات الألمانية. إلا أن الخلاص جاء بفضل تقنية متطورة تمكنت من رصد حركة الطائرات الألمانية قبل وصولها إلى الأجواء البريطانية بوقت كاف، مما سمح للمقاتلات البريطانية بالإقلاع والتصدي لها قبل الوصول إلى المدن. استمرت العمليات الألمانية طوال صيف عام 1940 في إطار عملية "أسد البحر" الضخمة، لكن جميع المحاولات النازية لاختراق الأجواء البريطانية باءت بالفشل.
فما علاقة كل هذا بالجزرة؟ لقد ساهمت بريطانيا في تطوير الرادار، أحد أهم الاختراعات السرية خلال الحرب. كان الرادار في بداياته بدائيًا، لكنه كان فعالًا في رصد الطائرات على مسافة لا تتجاوز ثلاثمائة كيلومتر من الشواطئ البريطانية، وهي مسافة كبيرة بالنظر إلى سرعة الطائرات في ذلك الوقت. ونظرًا لأهمية هذا الاختراع وسريته القصوى، عمدت الاستخبارات العسكرية البريطانية إلى نشر شائعات مفادها أن تناول الجزر بكميات كبيرة يعزز قدرة الطيارين على الرؤية في الظلام الدامس ويحسن قدراتهم البصرية بشكل خارق. كما حرصت السلطات على جعل الجزر جزءًا أساسيًا من وجبات الطيارين، ونشرت هذه المعلومة على نطاق واسع وكأنها سر من أسرار الدولة تم تسريبه. لا شك أن الجزر يحتوي على فيتامينات مهمة، مثل فيتامين (أ) الذي يعزز صحة البصر، لكن الشائعات بالغت في فوائده لتضليل الأعداء. وهكذا، تمكنت بريطانيا من الحفاظ على سر الرادار لفترة طويلة بفضل "عباءة" الجزرة وفوائدها الخارقة.
واليوم، ينتج العالم حوالي سبعة وثلاثين مليون طن من الجزر سنويًا، أي ما يعادل جزرة واحدة أسبوعيًا لكل فرد على وجه الأرض. قد لا يبدو هذا الرقم كبيرًا، لكن الجزرة تحتل مكانة مرموقة ضمن أهم عشرة محاصيل في العالم.
أمنيــــــة:
الجزرة ترمز إلى معانٍ سامية عديدة، لعل أبرزها التحفيز. وكما رأينا، فقد كانت أيضًا رمزًا للخداع والتمويه العسكري خلال الحرب العالمية الثانية. ويا سبحان الله، غالبًا ما ننسى أحد أهم المعاني التي تجسدها الجزرة، ألا وهو أنها نعمة عظيمة ومفيدة تستحق الحمد والشكر، فدعونا نتذكر ذلك دائمًا.